17.05.2021

أفريل 2, 2023

مع بداية العدوان الأخير، تحول دوامنا لنظام ٢٤ ساعة وانقسم أطباء الطوارىء إلى ثلاثة فرق، كل عدد من الأطباء منوط به مسؤولية معينة، فمنهم من يستقبل حالات الباطنة ومنهم من يفرز الحالات القادمة ومنهم من يستقبل حالات الجراحة. عدد الأطباء  في هذه المرحلة لا يقل عن ٨ أطباء، وإذا  حصل عجز في مكان ما، يتدخل طبيب من الأقسام الأخرى ليعوض العجز في حال كثرت الاصابات القادمة إلى المستشفى مثلاً. هناك دائمًا عجز في الادوات الطبية وأعداد الأسرة، ففي وقت ما من هذا العدوان كان قسم الطوارئ يوجد به قسم مختص لاستقبال حالات الاشتباه بفيروس كوفيد ١٩ ولكن مع بداية العدوان فتح القسم على مصراعيه. ما نحتاجه في المستشفى هو كوادر طبية مدربة للتعامل مع الحالات القادمة وعدة طبية كافية لأنه منذ بداية الحصار على غزة بات هناك عجز مطرد في المستلزمات الطبية

بطبيعة الحال، عندما نستقبل المصابين نكون على أتم الاستعداد، وأحيانًا يتم تبليغنا بأنه سيصل حالات جراء قصف ما في المنطقة، معظم الحالات يرافقها جلبة كبيرة وصراخ وعويل وتدخلات رجال الأمن الذين يحاولون ابعاد الناس لكي يستطيع الطاقم الطبي التعامل مع الحالة. نحاول قدر الامكان أن نتعامل باحترافية شديدة مع الحالات، رغم الجو المشحون في المستشفى، الذي يملؤه القلق والتوتر وصراخ الناس.

لقد عملت في مستشفى أبو يوسف النجار لفترة قصيرة، وأعرف جيدًا ماذا سيحصل لو حصل وأن تضاعف القصف في رفح وازدادت الحالات القادمة للمستشفى التي هي أشبه بعيادة صغيرة. أسرة قليلة وكوادر غير مدربة. وهذا ما لا أريد أن أتخيله، أن يتكرر سيناريو الجمعة السوداء، ستنهار المستشفى تمامًا وسيقف الطاقم الطبي عاجزًا أمام هول الحدث.

عندما آخد استراحة قصيرة من الدوام، كل ما أفعله هو ان أحظى بكوب من القهوة وقطعًا من كعك العيد الذي أعدته أمي في رمضان. ولكن طوال الوقت نتابع الأخبار بقلوب وجلة وهذا هو حال أغلب الطاقم الطبي، بعضنا يهرع لمشاهدة السماء وهي تعج بالصواريخ، وكلّنا ندعو للمقاومة ونحلم بانتصارات صغيرة.

ولكن بلا قلبِ إلى أين أذهب؟

أفريل 13, 2022

بعد أن وصلت إلى هنا، بطريقة ما لم ألاحظها حتى، لم أعرف أنّه في رمشة عين أو وهج ضوء، سيصبح هذا الآن واقعًا. لم يتخلل حياتي في غزّة سوى الركود والملل، العمل بجنون لكي أنسى مرور الوقت، دخنت دخاناً مقيتًا لكنّي كنت أحبه، أفتقد أحيانًا الرفقة لكنّي لا أملكها حقًا، ربما لأنني اخترت أن أكون هكذا، وحيدًا وملولاً، فقدت ألاعيبي القديمة، فقدت مرونة العبور للجانب الآخر، وفي النّهاية، لن أصبح ما أردته، ولكن هل فعلاً أعرف ما أريده؟ أرى نفسي على منحدر وعر، وأتخيّل أنني سأترك نفسي تتدحرج، ولكنّي أبحث عن طريقة لأبصر، أريد أن أجابه العالم، وأقول في ثبات رهيب، أعلم شيئًا واحدًا، ولا يهمّني أن أعرف عن الأشياء الآخرى التي كانت في وقت ما تجلب انتباهي، الأشياء التي كنت أتعثّر فيها وأقف مشدوهًا، ثم أنسى أن أطرق الباب. أريد أن أعرف أنني كنت أعمى، والآن، حقًا، أنا أبصر. هذه هي حياتي، كنت سأختار الخطر دائمًا، كنت أريد الضياع، أن أكون الشخص الذي في السيارة، أو مع السّابلة في الطريق، في السجن أحيانًا، أن أجٌرح، أن أحلم بينما تصفعني حرارة الشّمس.

لقد عملت كطبيب طوارىء سنة ونيف، وفي نفس الوقت عملت كطبيب عام في عيادة تابعة للأونروا. لقد عرفت ماذا يكون هناك، في الحياة المخبوءة خلف الحروب والفقر وخيبات الأمل. لقد آمنت بطريقة ما في صغري، أننا أقوياء جدًّا. كنا نتبارز في ذلك يوميًا وبلا وعي، كان الضعف مهينًا، وعليك دائمًا أن تكون هناك في فريق ما. في لحظات ما، كنت أعرف أنني أعي هذا، بعد عشرين عامًا أو أكثر، كنت أحلم بعالمي، هذا الذي أعيش فيه، كنت متأكدًا أن طعم الماء والطعام هنا أحلى، كنت متأكدًا أن أصدقائي في الشارع سيكبرون معي، كنت متيقنًا أن هذا هو العالم، وليس هناك في الخارج شيء يدعو للاهتمام، ألعب معهم كرة القدم، وأتعرّق مثلهم، وتلكمني الكرة أحيانًا. كان روتينًا لا يتغير، لكن أحدهم، وعديد منهم قدموا روحهم للأبديّة. لم يعرف أحد معنى ذلك، كنّا نذرع الطرق مطرقين الرأس بأعين ملتهبة من الحزن. وأنا، كنت في الخلف تمامًا ألتقط أنفاسي. دائمًا كنت أتسائل وأنا صغير، من هؤلاء الذين تلتصق صورهم على جدران الأزقة والمحلات، كنت أودّ أن أتعرّف عليهم، لقد نشأوا هنا على الأرجح، وبطريقة ما، لا تستطيع أن تفسرها، صاروا ينتمون للمكان، أسماء تنتصب في المكان للأبد. كانوا أصدقاء لي، وأصدقاء للشارع، وللعالم الذي لم يعودوا يعيشون فيه.

الآن الآن وليس هنا، على الأرجح، سيلتهم أحدهم رأسه ويتابع طريقه، لن يحلم البتة، سيفقد أحلام اليقظة الحلوة، سيعود إلى البيت، عاديًا تمامًا، لأنه يعيش خارج العالم.

مشهد قصير جدًا

جويلية 12, 2021

كان ذلك في يوم قائظ، أو بارد لست أدري. كانت السماء رماديّة اللون، والسابلة يركضون عبر الشارع يتهامسون. أصوات الناس لا تكاد تسمع، صمت مطبق يلفّ المكان، وبينما كنت أدخن سيجارتي، كان كلّ شيء قريبًا وواضحًا. صوت صراخ متقطع يستولي على المكان، والكلاب تجري بلا هدف مثل السيارات والنّاس. كنت هادئًا، كأني أتكىء على ركبتي آلهة، ينتابني القلق أحيانًا، أفكر في البحر، أطلق ساقي للريح، أشاهد الصيادين يمخرون البحر، وعلى امتداد الأفق، لا يظهر شيء سوى مراكب سوداء تجري بتؤدة في وسط البحر، أضع رأسي بين يديّ، بينما صوت حميد الشاعري يتردد في المكان: يا ريتني نسمة صبا. أرمي عقب السيجارة على الأرض، ثم أوقف سيارة تاكسي، يقول لي السائق: إلى أين؟ أقول له: لا أعرف. هز السائق رأسه: لا يهم. أجلس في الخلف، الريح تصفع وجهي، بينما الشمس في كبد السماء لا يحجبها شيء، أزيح رأسي إلى النافذة وأغمض عينيّ. أسمع دمدمات السيارة بوضوح. كل شيء مباح، عدا تدخين سيجارة في السيارة، أفتح عيني، يناولني السائق سيجارة ويقول لي: الأجرة، أدفع وأشعل السبجارة. يجأر السائق: لن يمرّ هذا اليوم بسهولة، أغمض عيني ثانيةً، تتساقط قلوب في الشوارع، ناس يحتضنون الأشجار ويهرقون الدموع، وجوه مكفهرة تحملق فيّ بجسارة، أضع يدي على وجهي، تتصدع جدران النهار، ويسقط الليل فجأة. يقول السائق: أسمع صرير القلم في اللوح المحفوظ هنا، أشار إلى رأسه، صدقني! ثمّ سحب نفسًا وقال: لن يمرّ هذا اليوم بسهولة. تتوقف السيارة، أضع قدمي على الأرض، أحس بأنّه لم يتبق شيء سوى صوت السيارة وهي تغادر المكان، أخوض طرقًا كثيرة، أشعل سيجارتي وأسحب نفسًا، أطرق على الباب ثلاث طرقات، ثم أفتحه، لا أحد في الداخل سواي، تنتابني قشعريرة في جسمي كلّه، أفكر، كيف مرّ هذا اليوم، يتساقط المطر بغزارة في الخارج، أنفجر بالبكاء، أتناول قلم رصاص على الطاولة وأكتب: اليوم التلاثاء، الثامن من أكتوبر، عشوائي جدًا. أملأ كأسي بفودكا رخيصة، أضع رجلاي على الطاولة وأقرر أن أتوقف عن البكاء، يهدأ الوجود مع أول رشفة، أتدحرج على الأريكة، وانطرح على السجادة ثم أغمض عيني على المشهد.

26.10

أكتوبر 26, 2020

هذه هي السنة الثانية في غزّة تقريبًا. أشرب القهوة على مضض، ولا أدخن إلا نادرًا. تعتريني رغبة جامحة في الكتابة ولا أكتب، أتلمّس طريقي بأصابع مرتجفة، بينما يتضخم قلقي أتدرع بالأمل. قد أقول أنّ العيش هنا خسارة فادحة للرّوح، تبرز لمحات خلابة من الحياة بينما تصفع الشمس وجهي، أتنفس الهواء المنعش بعمق وأتراخى بلا مقاومة لأحلام اليقظة. في نفس المكان الذّي ولدت فيه، جنوبًا على مقربة من البحر. هل ما أريده هو خارج هذه الحياة؟ أم هو متعذر على العالم؟ ولكن، هل سيسألك أحد ما تريده يومًا؟ إنّه سؤال قد لا يطرأ على الرأس إلا لمامًا. تتصاعد آلاف الأفكار وتخبو الاجابات، وفي اللحظة ذاتها ستشعر بمرارة في الفم. هذا هو، تقريبًا ما تشعر به طوال الوقت، ولكنك للأسف الشديد لا تهتم، لقد ذهلت للتو، الآن هو وقت الحساب، يمكنك أن تؤجله، أو أن تتجاوزه، بعد ذلك، قد تتساءل في لحظة عابرة حرّة. ماذا أريد حقًا؟ إذا كنت سأجيب خلال الأعوام العشرة القادمة، سأكون مسرورًا جدًا لتقبّل حتمية النّهاية. كم كان ضروريًا أن أذرع الشوارع، وأن أتنفس هواء البحر، وأشعر بضياء الشمس اللذيذ يكتسي جسدي، وكم هو مبهج أن تغذّ الخطى نحو لا شيء محدد وهناك، يعتصرك القلق وأنت تمتص رحيق سيجارة، لكنك مؤمن أنّه لا داعي للخوف، فقد تسللت بشجاعة إلى الجزء الآخر من العالم.

في الطريق إلى البيت

مارس 21, 2020

كان يبدو أنّه مرهق، يخطو بثقل على الرصيف بينما كان المطر ينز بغزارة، عيونه كانت تومض في الظلام الدامس بقلب يطفح بالقلق، يتلمّس طريقه إلى البيت بحذر، يتعثر أحيانًا في الحجارة وكان كلّما يقطع شارعًا يزداد هندامه تبللاً، يرمقه السابلة بنظرات حميمية على غير العادة، وعلى طول الطريق كانت أنوار البيوت منعدمة ونباح الكلاب يسمع بقوة إلا أنها كانت غير مرئية. يودّ أن يشعل سيجارة لكن رغبته في التدخين تختفي بمجرد أن يدلف إلى شارع تغشاه الريبة، تداعب وجهه ريح باردة وجافة ويتقاطر الناس إلى الشوارع فجأة صامتون بوجوه حادة مشرئبة رؤوسهم إلى السماء، بينما كان هو يتابع ببصره الأرض التي يخطو عليها باحتشام بالغ. ينتشر ضوء القمر على الأسطح، يخترق سمعه غناء باهت لامرأة تتكىء على افريز واطىء. يتوقف هنيهة ثم يلقي عليها التحية لكنها لا تعبأ به، تنكمش ملامح وجهه وبعد خطوات قليلة يختفي الصوت تدريجيًا ويشعر بالمرارة لذلك. في الطريق تبرز حيوات كثيرة لأناس منطرحون على الأرض، وأناس آخرين يرطمون وجوههم في الجدران وسكارى يناجون السماء بعويل مضطرب. أطفال يغمسون أقدامهم بمرح في ما قد يخيل إليهم كأنها ماء سرمدية، وفي كل جانب من الشوارع يتحلق الناس النيران ويتفوهون بدمدمات غير مفهومة، يشيرون أحيانًا إلى الأعلى بأصابع حذرة. السماء مكتظة بغيوم سوداء هائلة واجمة. يودّ لو يعشى بصره لكنه يتراجع ويحث الخطى إلى بيته، يحسبه قريبًا عندما يتجاوز كل هذه المظاهر القاسية ويستحيل الهياج إلى صمت منفر. يلج إلى البيت أخيرًا وتعتريه رغبة في الدخول إلى الحمام، وبينما كان يتبرز تفقد ساعته التي كانت تشير إلى الساعة الثانية والنصف صباحًا. يشعل سيجارته. أصوات عائمة كانت تنسل إلى الداخل. كان يعرف أن عليه أن يستيقظ في الصباح، خلا أنه كان قلقًا ومضطربًا، ثم لا يلبث أن يتحول إلى حالة من البكاء المكبوت. يتسمّر أمام مرآته وينشغل في معاينة وجهه، المطر يدق الشبابيك بقوة. يبتلع ريقه ثم يمضي في الشارع بلا ابطاء باتجاه البيت، يتوقف أحيانًا على رؤوس الشوارع، كانت هناك أقدام تلامس الأرض بفجاجة والقمر يترنح في الفضاء ويختلط بغيوم متناحرة، وفي الطريق دائمًا كان يبدو أنّه الوحيد الذي يهيم في الشوارع، تعلو وجهه نصف ابتسامة وقرور مخبوء وظاهر على نحو غريب، بوجهة محددة، تدفعه بحماسة مقاتل إلى البيت.